APP LOADER
الرئيسية
  • العنوان حول العالم في اثنين وعشرين يوماً
  • المؤلف محمد المر
  • دار النشر دار كُتَّاب للنشر
  • التصنيف أدب الرحلات

كتاب: حول العالم في اثنين وعشرين يوماً
للكاتب: محمد المر

المقدمة

أَوَّلَ مَا يَرِدُ إِلَى ذِهْنِ الْقَارِئِ عِنْدَمَا يَسْمَعُ عَنْ رِحْلَةٍ حَوْلَ الْعَالَمِ هُوَ بِلَا شَكِّ كِتَابِ الْأَدِيبِ الْفَرَنْسِيِّ الْكَبِيرِ جولي فيرن (حَوْلَ الْعَالَمِ فِي ثَمانِينَ يَوْمًا). وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ تِلْكَ الرِّوَايَةِ كانت نِتَاجَ مخيلةِ ذَلِكَ الْأَدِيبِ الْخَصِبَةِ، إِلَّا أَنَّهُ حَتَّى فِي تِلْكَ الايام فَإِنَّ رَحَّالَةً أَمْرِيكِيًّا اِسْتَطَاعَ أَن يَدُورُ حَوْلَ الْعَالَمِ مُسْتَخْدَمَا الْبَوَاخِرِ وَالْقِطَارَاتِ، وَمُنهِيًّا رَحَلَتْهُ فِي أَقَلِّ مِنْ ثَمانِينَ يَوْمًا. أَمَّا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَفِي إِمْكَانِ الْإِنْسَانِ أَنَّ يَدُورُ حَوْلَ الْعَالَمِ فِي ضِيَافَةِ خُطُوطِ الطَّيَرَانِ الْعَالَمِيَّةِ فِي سَاعَاتٍ مَعْدُودَةٍ. وَقَدْ قَامَ مُؤَخَّرَاً الْمُمَثِّلِ الْبرِيطَانِيِّ الْمَعْرُوفِ (مايكل بالين) مَعَ طَاقِمِ تِلِفِزْيونِ البي بي سي، بِإِعَادَةِ تَجْرِبَةِ رِوَايَةِ جولي فيرن حَوْلَ الْعَالَمِ فِي ثَمانِينَ يَوْمًا مُسْتَخْدِماً الْقِطَارَاتِ والبواخر وقد مَرَّ بِدَوْلَةِ الْإمَارَاتِ وَمِنْهَا أَبحر إلى مَدِينَة بومباي الْهِنْدِيَّة.

رحلتي الأخيرة حول العالم، وهذه أول مرة أدور فيها حول الكرة الارضية، لم تكن بقصد المغامرة أو الاستكشاف، بل كان الدافع من ورائها والظروف التي أملتها مختلفة تماماً عن تلك الأمور.

قبل عدة أشهر أصابتني آلم في ظهري وكتفي واستخدمت لها بعض المراهم والأدوية الموضعية، وكانت تخف ثم تعاود الرجوع. ولما بدأ الوجع يتسلل إلى ذراعي اليسرى، بدأت الوساوس المرضية تتسلل إلى ذهني، آلام في الظهر والكتفين وتنميل في الذراع اليسرى، لابد أنه مرض القلب! عملية فتح القلب!، تبديل الشرايين! انا أنتمي إلى قبيلة عالمية اسمها (أهل الوسوسة المرضية) ونحن قبيلة كبيرة، فعددنا في بريطانيا يزيد عن المليونين، وفي الولايات المتحدة يصل تعدادنا إلى عشرة ملايين، وقس على ذلك في باقي دول العالم. وقد كتب لي أحد القراء الأعزاء بعد صدور مجموعتي القصصية الأخيرة (سحابة صيف) رسالة لطيفة، ولكنه سخر من بطل قصة (هذيان الديسك) الذي ينتمي إلى قبيلتنا العالمية وأعلن احتقاره له دون أن يدري أن المؤلف نفسه من أبناء تلك العشيرة!

بم يقنعني تشخيص الأطباء عندنا، ونحن أهل الوسوسة بيننا وبين الأطباء علاقة حب وكره، فنحن نكثر التردد عليهم، وعندما يطمئنونا نشك في قدراتهم التشخيصية، وعندما يوفقون في تشخيص المرض الذي أصابنا نشك في قدراتهم العلاجية، كما أننا نسمع عن تشخيصهم آراء متناقضة فهناك؛ مرضى أخبروهم في مستشفياتنا المحلية بأنهم مصابون بعلل منوعة، وعندما ذهبوا إلى المراكز الطبية في أوروبا وأمريكا ضحك الأطباء من ذلك التشخيص. وهناك مرضى آخرون توافق تشخيص الإمارات

مع تشخيص الخارج، ولكن لم يتوافق العلاج، وهناك الفئة الأخيرة التي توافق فيها التشخيص والعلاج.

فكرت في السفر إلى الخارج، ولما كنت في السنوات الأخيرة لا أميل إلى السفر فقد ترددت في اتخاذ القرار، ولكنني حسمت أمري عندما أخبرني أحد الأخوة الأحباب عن رغبته بالسفر إلى المركز الطبي في مدينة هيوستن بولاية تكساس الأمريكية لإجراء بعض الفحوصات الطبية وأنه في الوقت نفسه يرغب في إتمام بعض أعماله التجارية في سنغافورة وطوكيو وباريس. أتممنا التأشيرات وما يحتاجه المسافر، وتهيأنا للسفر حول كرتنا الأرضية الغالية. في صباح اليوم الذي سبق السفر ذهبت إلى فرع البنك الذي أتعامل معه وأنا مليء بالحيوية والنشاط والتفاؤل، رحب بي مدير الفرع وطلب لي الشاي والماء البارد، أخبرته عن رغبتي في شراء الشيكات السياحية.

افتَرَ ثَغره عن ابتسامةِ مجاملةٍ وسألني:

- إلى أين السفر؟

- إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

- للعمل أو للسياحة؟

- للكشف الطبي.

- خير إن شاء الله!

- شيء بسيط أصابني في الآونة الأخيرة آلام في ظهري

وتسللت إلى ذراعي الأطباء هنا قالوا لا داعي للقلق، ولكن أنت تعرف يجب على الإنسان أن يطمئن.

- حسنا فعلت، فحوصات الأطباء هنا لا تُطَمْئِن، أحد الموظفين عندنا عندما أُجْرِيَ له الفحص الطبي هنا قالوا له أنت بخير ولما ذهب إلى أمريكا وكشفوا عليه أخبروه أنه مصاب بسرطان الدم وليس أمامه فسحة من العيش سوى وقت قصير، وهناك أيضاً أحد المعارف الذين قالوا له هنا إن كل شيء على ما يرام، وعندما فحص في الخارج اكتشفوا فيه المصائب والبلايا.

لم أعد أسمع باقي كلامه، تبخر التفاؤل والحيوية، وقعت على الشيكات السياحية بشكل آلي وقد تجددت الوساوس وتضخمت الهواجس.

وفي المساء مررت بمجلس ندوة الثقافة والعلوم وعلى الرغم من أننا تندرنا مع الأخوة الحاضرين حول حديث مدير الفرع إلا أن تلك القفشات المرحة لم تنجح إلا في تخفيف قدر بسيط من الوساوس التي أثارها مدير الفرع بحديثه المليء بالتشاؤم!

الصفحة الحادية عشرة
الأحد
24 إبريل 1994

غادرنا مطار دبي في الساعة الرابعة فجراً على متن طيران الإمارات. لا أحب رحلات الليل، ولكن ما العمل؟ لاسيما أن التذاكر التي حصلنا عليها مخفضة، ولا يمكننا إلا أن نستخدم طيران الإمارات والأمريكان إير لاينز فقط! جلس على الكرسي المجاور لي من ناحية اليمين رجل له ملامح أوروبية، كان يقرأ رواية من روايات أدب الخيال العلمي، بعد قليل من إقلاع الطائرة تعارفنا، أخبرني أنه رجل أعمال أمريكي، عنده شركة تجارية في سنغافورة وله مكتب تمثيل تجاري في مدينة دبي وهو يقيم مع زوجته في دبي لأن زوجته عربية، وهو يحب الحياة البسيطة والهادئة في دولة الإمارات.

تصفحنا الجرائد اليومية، سألته عن رأيه في الضجة التي أُثيرت في الصحافة الأمريكية عن قضية الصبي الأمريكي الذي ارتكب عدة مخالفات في مدينة سنغافورة فحكم عليه القاضي السنغافوري بالجلد ست ضربات على مؤخرته بالكرباج، وكيف أن المعلقين الأمريكيين يقولون بأن تلك الضربات قاسية جداً، وسوف تترك أثراً دائماً وذلك تصرف بربري! ضحك وقال: أتمنى أن تطبق تلك العقوبات في مدننا الأمريكية! لقد أصبح كثير من مدننا الأمريكية مناطق نفوذ لعصابات من الأحداث والصبية المنحرفين الذين يعرفون أن العقاب الكافي لن يطالهم، لذلك فإنهم يتمادون في سلوكياتهم المجرمة، كما أننا يجب أن نتقيد بقوانين البلدان التي نذهب إليها ونعيش فيها كما نطلب من الأجانب أن يتقيدوا بالقوانين الأمريكية عندما يحضرون إلى بلادنا.

تشعب حديثنا عن الجريمة والعقاب والأحوال في مدن الولايات المتحدة التي درست في إحداها، ولكني لم أذهب إليها منذ زمن طويل، حضر الطعام فانشغل كل منا بالأطباق التي أمامه.

بعد نهاية الوجبة، رجع هو إلى روايته وبدأت أقرأ كتاباً عن مدينة سنغافورة. ذكر المؤلف شيئاً عن تاريخ تلك المدينة فقال إن أسطورة من ماليزيا تقول: أن أميراً من سومطرة التقى بأحد الأسود قرب تيماسيك، فكان ذلك فألاً حسناً مما دفعه لتأسيس(سنغافورة) أي (مدينة الأسد)، ولكن الواقع يثبت أن الأسود لم تسكن سنغافورة ولا يوجد دليل أركيولوجي لمدينة قديمة، لذلك فأغلب الظن أنها كانت مركزاً تجارياً صغيراً للإمبراطور الجافنية في منتصف القرن التاسع الميلادي. في القرون الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر تصارع على تلك المنطقة التايلانديون والبرتغاليون والهولنديون، في القرن الثامن عشر بدأت بريطانيا بالاهتمام بتلك المنطقة مع تدخل شركة الهند الشرقية بسياستها التجارية والاستعمارية المعروفة. وفي بداية القرن التاسع عشر وعلى التحديد في 29 يناير 1819 وصل السير ستامفورد رافلز إلى سنغافورة وتوصل إلى معاهدة مع الحكام المحليين لإدارة تلك الجزيرة، وترك مساعده فيها ثم رجع إليها في عام 1822 بعد وفاة ثلاثة من أولاده، وبدأ بتنظيم الحركة التجارية الحرة بين السكان وساعد في تخطيط المناطق السكنية بما فيها الحي الصيني. في عام 1824 اشترت بريطانيا جزيرة سنغافورة وما جاورها من السلطان حسين الذي كان محتاجاً للمال بسبب إسرافه!

في البداية ابتُلِيَت الجزيرة بالأمراض والقرصنة، ولكن المجموعات السكانية التجارية التي تكونت من الصينيين وأهل جاوه والهنود والعرب ساهمت في خلق حركة تجارية ديناميكية. وبدأت بزراعة بسيطة وقضت على النمور التي كانت توجد بكثرة في الجزيرة، وقتل آخرها في عام 1904.

في القرن التاسع عشر جاءت الهجرات الصينية التي جعلت العنصر الصيني أكثرية بين سكان الجزيرة. واستخدمت سنغافورة مركزاً للحجاج المسلمين من جنوبي شرقي آسيا عند ذهابهم ورجوعهم من الأراضي المقدسة وكان شارع العرب مركزاً لهم، وهو مازال موجوداً بمحلاته التجارية التقليدية.

في الحرب الثانية استولى اليابانيون على سنغافورة بخدعة حربية وكان سقوطها من الأخطاء البريطانية الجسيمة وارتكب اليابانيون بعض الفظاعات ثم رجع الإنجليز بعد جلاء اليابانيين.

أشهر شخصيات سنغافورة الحديثة ومؤسس النهضة الاقتصادية هو السياسي (لي كوان يو). وكان أجداده قد قدموا من الصين، ولكنه ولد في سنغافورة ودرس في جامعة كامبريدج وأسس في عام 1925 حزب العمل الشعبي صاحب النزعات التقدمية.

وفي عام 1963 اتحدت سنغافورة مع ماليزيا، ولكن نتيجة للعديد من السياسات الفئوية والإقليمية المتصارعة طردت سنغافورة من الاتحاد الماليزي وأعلنت جمهورية مستقلة في أغسطس 1965. خاف لي كوان يو من وحدة سنغافورة وحرمانها البعد الجغرافي والسكاني الماليزي، ولكن سياسته التي وازنت بين الاقتصاد الحر والعدالة الاجتماعية والاهتمام بالتعليم ونظافة الأجهزة الحكومية ساعدت في جعل الجمهورية الصغيرة مثالاً يحتذى به في المنطقة كلها.

يبلغ عدد سكان الجزيرة مليونين وسبعمئة ألف نسمة وتقسيمهم كالتالي: 76% أصولهم صينية، 15% أصولهم ملاوية، 7% أصولهم هندية، 2% من باقي الأجناس.

انشغل جاري الأمريكي بمشاهدة أحد الأفلام في التلفزيون الصغير الذي أضافته قبل مدة طيران الإمارات إلى خدماتها، تأثرت به ففتحت الجهاز وشاهدت فيلما للمثل والمخرج الأمريكي وودي ألن عنوانه (جريمة قتل غامضة في مانهاتن) لم يعجبني كثيراً أحسست أنه لا يرقى من الناحية الفنية إلى مستوى أفلامه السابقة مثل (حب وموت) و (العبها مرة ثانية يا سام)، و (مانهاتن) وغيرها.

مررنا لمدة ساعة بمطار مدينة كولومبو عاصمة سيلان، مدينة جميلة بخضرتها وموقعها الفريد سيرلانكا من النماذج الآسيوية التي كان يمكن أن تنجح نجاحاً مذهلا بسبب عدد السكان الصغير مقارنةً بدول شبه القارة الهندية ونسبة التعليم العالية وكثرة الخيرات الطبيعية والسياحية، ولكن السياسات التنموية الخاطئة والحرب الأهلية حولتها إلى دولة من الدول الفقيرة!

جاءت المضيفة ببعض الحلويات والشاي والمناشف الصغيرة الحارة التي تذكرني بالمطاعم اليابانية والصينية.

مطار سنغافورة فخم وجميل، إجراءات الدخول كانت سريعة جداً. الساعة كانت قد تخطت الرابعة عصراً، في الطريق من المطار إلى الفندق وستن شاهدت مدينة أشبه بسيدة قد خرجت من أحد الصالونات بعد أن صففت شعرها وحصلت على خدمات المانيكير والباديكير كلها.

صديقي كان منهكاً من الرحلة ولكني لم أكن تعِباً فذهبت إلى مطعم صغير بالقرب من الفندق وتناولت فيه عشاء خفيف من الخضروات، ثم شاهدت فيلماً أمريكياً خيالياً مسلياً اسمه (قلوب وأرواح) وتدور قصته حول سيدة سوداء وأولادها ورجل يحب الغناء ولكنه لم يجد الشجاعة في الظهور أمام الجمهور وبنت تخاصم خطيبها وشاب يسرق مجموعة طوابع ثمينة من طفل ليبيعها لتاجر لص، يركبون باصاً فيصطدم بسيارة رجل كان يأخذ زوجته الحامل لكي تلد، يتحكم الباص وينجو الرجل وزوجته وعندما تلد يظهر الأبطال الأربعة للطفل، يشك أهله في قواه العقلية، في نهاية الفيلم يأتي سائق الباص مع مركبته لأخذهم إلى الدار الآخرة ولكنهم يطلبون التأجيل قليلاً لتحقيق رغباتهم ويساعدهم الطفل عندما أصبح رجلاً: الأم السوداء ترى ولدها الكبير المغني يمارس موهبته أمام جمهور كبير، الشاب اللص يرجع مجموعة الطوابع إلى صاحبها، البنت تعرف أن حبيبها قد مات وهو يفكر فيها.... إلخ أفلام الخيال الرومانسية هي مجموعة من الأفلام الخفيفة التي أنتجتها استوديوهات هوليوود مؤخراً لكي ترد بها على اتهامها بأنها لا تنتج إلا أفلام الجنس والجريمة!

قبل أن أنام أطللت من حجرتي في الطابق السادس والثلاثين على مدينة سنغافورة التي تتلألأ أنوارها بجمال أخَّاذ وشاهدت كيف تطورت تلك المدينة من جزيرة صغيرة تسرح فيها النمور وتستوطنها الأمراض والنباتات الاستوائية إلى مدينة تضاهي بالتفوق أرقى المدن الأوروبية وتساءلت متى ستقلد مدننا العربية العريقة قصة النجاح الإنساني الظاهرة أمامي!

0:00 0:00